الميزان في تفسير القرآن سورة الناس 1 - 6
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)
بيان
أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعوذ بالله من شر الوسواس الخناس و السورة مدنية كسابقتها على ما يستفاد مما ورد في سبب نزولها بل المستفاد من الروايات أن السورتين نزلتا معا.
قوله تعالى: «قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس» من طبع الإنسان إذا أقبل عليه شر يحذره و يخافه على نفسه و أحسن من نفسه الضعف أن يلتجىء بمن يقوى على دفعه و يكفيه وقوعه و الذي يراه صالحا للعوذ و الاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره و يدبره و يربيه يرجع إليه في حوائجه عامة، و مما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من الشر، و هذا سبب تام في نفسه، و إما ذو قوة و سلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، و هذا أيضا سبب تام مستقل في نفسه.
و هناك سبب ثالث و هو الإله المعبود فإن لازم معبودية الإله و خاصة إذا كان واحدا لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه و لا يرجع في شيء من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده و لا يعمل إلا ما يشاؤه.
و الله سبحانه رب الناس و ملك الناس و إله الناس كما جمع الصفات الثلاث لنفسه في قوله: «ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون»: الزمر: 6 و أشار تعالى إلى سببية ربوبيته و ألوهيته بقوله: «رب المشرق و المغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا»: المزمل: 9، و إلى سببية ملكه بقوله: «له ملك السماوات و الأرض و إلى الله ترجع الأمور»: الحديد: 5 فإن عاذ الإنسان من شر يهدده إلى رب فالله سبحانه هو الرب لا رب سواه و إن أراد بعوذه ملكا فالله سبحانه هو الملك الحق له الملك و له الحكم و إن أراد لذلك إلها فهو الإله لا إله غيره.
فقوله تعالى: «قل أعوذ برب الناس» إلخ أمر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعوذ به لأنه من الناس و هو تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس.
و مما تقدم ظهر أولا وجه تخصيص الصفات الثلاث: الرب و الملك و الإله من بين سائر صفاته الكريمة بالذكر و كذا وجه ما بينها من الترتيب فذكر الرب أولا لأنه أقرب من الإنسان و أخص ولاية ثم الملك لأنه أبعد منالا و أعم ولاية يقصده من لا ولي له يخصه و يكفيه ثم الإله لأنه ولي يقصده الإنسان عن إخلاصه لا عن طبعه المادي.
و ثانيا وجه عدم وصل قوله: «ملك الناس إله الناس» بالعطف و ذلك للإشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا في دفع الشر فهو تعالى سبب مستقل لكونه ربا لكونه ملكا لكونه إلها فله السببية بأي معنى أريد السبب و قد مر نظير الوجه في قوله «الله أحد الله الصمد».
و بذلك يظهر أيضا وجه تكرار لفظ الناس من غير أن يقال: ربهم و إلههم فقد أشير به إلى أن كلا من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الأخريين لاستقلالها و لله الأسماء الحسنى جميعا، و للقوم في توجيه اختصاص هذه الصفات و سائر ما مر من الخصوصيات وجوه لا تغني شيئا.
قوله تعالى: «من شر الوسواس الخناس» قال في المجمع،: الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي انتهى فهو مصدر كالوسوسة كما ذكره و ذكروا أنه سماعي و القياس فيه كسر الواو كسائر المصادر من الرباعي المجرد و كيف كان فالظاهر كما استظهر أن المراد به المعنى الوصفي مبالغة، و عن بعضهم أنه صفة لا مصدر.
و الخناس صيغة مبالغة من الخنوس بمعنى الاختفاء بعد الظهور قيل: سمي الشيطان خناسا لأنه يوسوس للإنسان فإذا ذكر الله تعالى رجع و تأخر ثم إذا غفل عاد إلى وسوسته.
قوله تعالى: «الذي يوسوس في صدور الناس» صفة للوسواس الخناس، و المراد بالصدور هي النفوس لأن متعلق الوسوسة هو مبدأ الإدراك من الإنسان و هو نفسه و إنما أخذت الصدور مكانا للوسواس لما أن الإدراك ينسب بحسب شيوع الاستعمال إلى القلب و القلب في الصدر كما قال تعالى: «و لكن تعمى القلوب التي في الصدور»: الحج: 46 قوله تعالى: «من الجنة و الناس» بيان للوسواس الخناس و فيه إشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين و في زمرتهم كما قال تعالى: «شياطين الإنس و الجن»: الأنعام: 112.
بحث روائي
في المجمع،: أبو خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو شاك فرقاه بالمعوذتين و قل هو الله أحد و قال: بسم الله أرقيك و الله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة.
أقول: و تقدم بعض الروايات الواردة في سبب نزول السورة.
و فيه، روي أن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس و إذا نسي التقم فذلك الوسواس الخناس.
و فيه، روى العياشي بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من مؤمن إلا و لقلبه في صدره أذنان أذن ينفث فيها الملك و أذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك، و هو قوله سبحانه: «و أيدهم بروح منه».
و في أمالي الصدوق، بإسناده إلى الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية «و الذين إذا فعلوا فاحشة - أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم» صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثوير فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا. قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك فقال لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بما ذا؟ قال: أعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة.
أقول: تقدم بعض الكلام في الشيطان في أوائل الجزء الثامن من الكتاب.
تم الكتاب و الحمد لله و اتفق الفراغ من تأليفه في ليلة القدر المباركة الثالثة و العشرين من ليالي شهر رمضان من شهور سنة اثنتين و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة و الحمد لله على الدوام، و الصلاة على سيدنا محمد و آله و السلام.